جريدة الإتحاد - 12/26/2025 12:48:19 AM - GMT (+4 )
عندما يتكلم العقل بحياد لا ينطق إلا عدلاً وإنصافاً، وهو ما يُعجِز أقوى الأسلحة عن منافسته، فالعقل لا يُكره أحداً على الإيمان بل يقنع كل أحد بصدق الإسلام ولو لم يؤمن به، فالإسلام ينتصر بعقلاء الغرب والشرق ولا ينهزم بتخلي أحد عنه.
ولنا في قدوتنا الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المثل الأعلى عبر هذه القصة الملهمة: لما جيء بسبايا بني طيِّئ إلى المدينة المنورة وأدخل السبي على النبي صلى الله عليه وسلم، دخلت مع السبايا سفانة بنت حاتم الطائي وكانت امرأة عيطاء لعساء، عيناء. (والعيطاء: الطويلة المعتدلة بين النساء، واللعساء: جميلة الفم والشفتين، والعيناء: واسعة العينين).
فعجب الحاضرون من حسنها وجمالها، فلما تكلمت نسوا حسنها وجمالها، لحلاوة منطقها وجمال فصاحتها ! فقالت: يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي الأعداء من قبائل العرب، فإني أبنةُ سيد قومه، وأن أبي كان يُحب مكارم الأخلاق، وكان يُطعم الجائع، ويفكُ العاني ويكسو العاري، وما أتاهُ طالب حاجة إلا ورّدهُ بها معززاً مكرّماً. فقال النبي: من والدك ومن وافدك؟ قالت: والدي حاتم بن عبدالله الطائي، ووافدي أخي عدي بن حاتم. (وكان عدي قد فرّ إلى الشام بعد هزيمة قبائل بني طي أمام المسلمين في السنة التاسعة من الهجرة، ثم تنصّر هناك والتجأ إلى ملك الروم). فقال صلى الله عليه وسلم: فأنت ابنة حاتم الطائي؟
قالت: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: يا سفانة، هذه الصفات التي ذكرتيها إنما هي صفات المؤمنين، ثم قال لأصحابه: أطلقوها كرامة لأبيها، لأنه كان يحب مكارم الأخلاق!! فقالت: أنا ومن معي من قومي من السبايا والأسرى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أطلقوا من معها كرامة لها ولأبيها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أرحموا ثلاثاً، وحق لهم أن يُرحموا: عزيزاً ذلّ من بعد عزّهِ، وغنياً افتقر من بعد غناه، وعالماً ضاع ما بين جُهّال).
فلما رأت سفانة هذا الخلق الكريم الذي لا يصدر إلا من قلبٍ كبير ينبض بالرحمة والمسؤولية، قالت وهي مطمئنة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأسلم معها بقية السبي من قومها، وأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غنمه المسلمون من بني طيِّئ إلى سفانة، ولما تجهزوا للرحيل قالت سفانة: يا رسول الله إن بقية رجالنا وأهلنا صعدوا إلى صياصي الجبال خوفاً من المسلمين فهل ذهبت معنا وأعطيتهم الأمان حتى ينزلوا ويسلموا على يديك فإنه الشرف؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: سأبعث معكم رجلاً من أهل بيتي يحمل إليهم أماني، فقالت من هو يا رسول الله؟ قال: علي بن أبي طالب. ثم أمر النبي أن يجهزوا لها هودجاً مبطناً تجلس فيه معززة مكرمة وسيرها مع السبايا من قومها ومعهم علي بن أبي طالب حتى وصلوا إلى منازل بني طيِّئ في (جبل أجأ)، ونادى علي بن أبي طالب بأمان رسول الله بأعلى صوته حتى سمعه كل من في الجبل، فنزلت رجال طيِّئ وفرسانها جماعات وفرادى إلى الوادي فلما وقعت أبصارهم على نسائهم وأبنائهم وأموالهم، وقد عادت إليهم بكوا جميعاً والتفوا حول الإمام وهم يرددون الشهادتين، فلم يمض ذلك اليوم إلا ودخلت كل قبيلة بني طيِّئ في الإسلام، ثم بعثت سفانة إلى أخيها عدي تخبره عن عفو رسول الله وكرمه وأخلاقه، وحثّتهُ على القدوم إلى المدينة المنورة ومقابلة النبي الكريم.
والاعتذار منه والدخول في الإسلام، فتجهز عدي من ساعته وقصد المدينة ودخل على رسول الله وأسلم على يديه الشريفتين، ثم عاد إلى قومه معززاً مكرماً وصار بعد ذلك من خيار المسلمين. هكذا نرى كيف أن هذا الخلق النبوي قد جعل من الناس العصاة بشراً طائعين مسلمين هذا هو الإسلام الحقيقي أخلاق ومكارم.
*كاتب إماراتي
إقرأ المزيد


