الهند: تحديات عالمية وإصلاحات داخلية
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

خلال زيارته لثلاث دول في الآونة الأخيرة، سلَّط رئيسُ الوزراء الهندي ناريندرا مودي الضوءَ على قصة النمو الاقتصادي لبلاده، مؤكداً أنها ستصبح قريباً ثالث أكبر اقتصاد في العالم. وفي الوقت الذي سعى فيه إلى جذب اهتمام المستثمرين بقصة النمو الهندية، لا تزال هذه الدولة الواقعة في جنوب آسيا من بين أسرع الاقتصادات نمواً في العالم. وقد واصلت الهندُ مسارَ نمو قوي، على الرغم من التحديات العالمية وفرض الولايات المتحدة تعريفة جمركية بنسبة 50% على وارداتها منها، وهي النسبة الأعلى، مما أثَّر سلباً على صادراتها.

ورغم هذه التحديات، أظهرت الهندُ طوال عام 2025 قدراً كبيراً من المرونة على صعيد التنمية الاقتصادية. فقد قدّر صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد الهندي بنحو 6.6% للسنة المالية 2025–2026، مدفوعاً بتوسع بلغ 7.8% خلال الربع الأول. وبالمقارنة مع متوسط نمو عالمي يبلغ نحو 3%، تظل الهندُ نقطة مضيئةً في الاقتصاد العالمي.

كما سعت الحكومة الهندية إلى الحفاظ على هذا الزخم، بل وتعزيزه من خلال مجموعة من الإصلاحات الكبرى التي تعالج قضايا هيكلية، بدءاً من إصلاحات سوق العمل وصولاً إلى إصلاحات إضافية في ضريبة السلع والخدمات. وخلال هذا العام، عدّلت الهندُ نظام ضريبة الدخل، وأدخلت أربعةَ قوانين عمل محورية كانت مطلباً رئيسياً لقطاع الأعمال. وفي الوقت نفسه، قام بنك الاحتياطي الهندي بخفض أسعار الفائدة. وتهدف إصلاحات ضريبة السلع والخدمات إلى تبسيط النظام الضريبي بشكل أكبر، حيث تم تقليص عدد الشرائح المتعددة إلى شريحتين أساسيتين فقط: 5% و18%. كما جرى استحداث شريحة ضريبية بنسبة 40% على ما يُعرف باسم «السلع الضارة»، مثل منتجات التبغ والمقامرة عبر الإنترنت وغيرها.

ولتحفيز الاستهلاك، خفّضت الحكومةُ الضرائبَ على السلع الأساسية والقطاعات التي تستهدف الشبابَ مثل اللياقة البدنية والسيارات والمواد التعليمية، إلى جانب تعزيز الامتثال الرقمي، بما يهدف إلى تحسين جودة الحياة ودعم النمو وخفض الكلفة. وبالمثل، تهدف قوانين العمل الجديدة إلى تلبية مطلب قديم في قطاع التصنيع يتمثل في مزيد من التنظيم وتحديث القواعد العمالية. فقد دمجت الحكومة 29 تشريعاً في أربعة قوانين جديدة بدأ تطبيقها الشهر الماضي. وتشمل هذه القوانين: قانون الأجور لعام 2019، وقانون العلاقات الصناعية لعام 2020، وقانون الضمان الاجتماعي لعام 2020، وقانون السلامة والصحة المهنية وظروف العمل لعام 2020.

ومن بين أبرز الإجراءات إقرار حق قانوني في الحد الأدنى للأجور، مع تحديد «أجر أدنى» وطني من قبل الحكومة المركزية. وينص تعريفٌ موحدٌ للأجور على أن يشكّل الأجر الأساسي 50% على الأقل من إجمالي الأجر، وذلك بهدف زيادة المساهمات في مزايا الضمان الاجتماعي، مثل صندوق الادخار التقاعدي. وشدد رئيس الوزراء ناريندرا مودي على أن إصلاحات العمل الجديدة «تمثل خطوة هامة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي للهند، وستعطي زخماً جديداً لهدف بناء هند متقدمة بحلول عام 2047». كما ضمنت هذه الإصلاحات المساواة في الأجور واحترام المرأة، وضمان الحماية الاجتماعية لنحو 400 مليون عامل. ومن المتوقع أن تسهم هذه الإصلاحات في دعم النمو الاقتصادي، وتعزيز الاستهلاك المحلي، ودفع قطاع التصنيع.

وكان هذا العام مضطرباً بالنسبة للهند، شأنها شأن اقتصادات أخرى، فقد أثّرت التعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة سلباً على التجارة العالمية، إذ سعت أكبر سوق في العالم إلى استخدام التجارة كسلاح جيوسياسي. ولم تسلم الهندُ من ذلك، رغم أنها ليست اقتصاداً يعتمد على التصدير.

ومع ذلك، فقد أثرت التعريفة الجمركية الأميركية البالغة 50% على الصادرات الهندية، لا سيما في القطاعات التي تعتمد على السوق الأميركية. وكان الرئيس دونالد ترامب قد فرض في البداية تعريفةً بنسبة 25%، ثم أتبعها بتعريفة أخرى بنسبة 25% كإجراء عقابي على الهند لشرائها النفطَ من روسيا.

واليوم، تواجه الهندُ أعلى رسوم جمركية تفرضها الإدارة الأميركية على أي دولة. ومع ذلك، واصلت الهندُ صمودها في وجه هذه الأزمة، واستمرت في المحادثات بشأن اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، إلى جانب سعيها، شأنها شأن دول أخرى، إلى تنويع تجارتها وتقليل الاعتماد على السوق الأميركية. ويبدو أن هذا الوضع قد يستمر خلال العام المقبل. ففي النصف الأول من هذا العام، ظل الاستهلاك المحلي، وهو محرك رئيسي للنمو الاقتصادي في الهند، ضعيفاً، لكنه بدأ الآن في التعافي. ومن بين التحديات الأخرى التي تواجهها الهند تراجع قيمة الروبية، والتي سجلت مستوى قياسياً منخفضاً عند 91 روبية للدولار الواحد.

ومع ذلك، أثبت الاقتصادُ الهندي قدرتَه على الصمود. ومن المتوقع التوصل قريباً إلى اتفاق تجاري بين الهند والولايات المتحدة. كما تتفاوض الهند على مجموعة من الاتفاقيات التجارية مع الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي، إلى جانب محادثات مع المكسيك بعد رفعها للتعريفات الجمركية. وتصدِّر الهندُ منتجاتٍ مثل السيارات وقطع غيارها، ومن شأن هذه الاتفاقيات أن تدعم الصادرات وتعزز التصنيع، ما يوفر دَفعةً إضافيةً للاقتصاد.

*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي
 



إقرأ المزيد